الأربعاء، 9 يناير 2013

كردستان العراق تتحدى وتبدأ تصدير النفط عبر تركيا

بعد 20 عاما بدأ إقليم كردستان فى شمال العراق جنى ثمار تحالفه مع الولايات المتحدة الأمريكية طيلة سنوات حروب الخليج والعراق، تمتع الأكراد خلالها بالأمن بينما كانت المعارك الحربية والقصف الجوى وعنف الاحتلال والمقاومة والفتنة الطائفية تجتاح الوسط والجنوب ، ولم يعكر صفوها غير غارات الأتراك على الشريط الحدودى بين تركيا والعراق تعقبا للفارين من أكراد تركيا باحثين عن ملاجئ لهم فى جبال كردستان.
العالم يتعامل اليوم مع أمر واقع ، بترول وشركات وخطوط أنابيب ودولة مفتتة وكيانات تظهر وعقود تكتب وأموال تكسب. وشهدت الأسابيع الأخيرة توترا بين الحكومة العراقية المركزية فى بغداد وحكومة إقليم كردستان وصداما عسكريا محدودا ، بسبب خلافات على ملكية الثروة النفطية فى الشمال وتحالف كردستان مع تركيا لمد خط أنابيب عبر الأراضى التركية لنقل بترول الشمال إلى الموانىء التركية وتصديره ، وتوقيع عقود نفطية مع شركات أجنبية عملاقة مثل "اكسون" و"شيفرون" و"توتال" وشركة جازبروم الروسية للسماح للأكراد بتصدير 135 ألف برميل نفط يوميا، ويسعى لرفع الكمية إلى مائتي ألف برميل من إجمالى إنتاج العراق الحالى والمقدر بنحو 2.7 مليون برميل من النفط يوميا، يصدر منها 2.1 مليون برميل. 
خريطة سكانية للعراق - العناوين بالانجليزية والتقسيم سنى وشيعى وكردى ومناطق مختلطة!
وفى الشمال ، حيث سينعم الأكراد بنصيب مباشر من البترول ، لن يكون للدعوة لوحدة العراق أى أثر يذكر، وأغلب الظن أنهم بعد صبر السنين لن يتركوا غنيمتهم تقع فى يد غريمهم الجنوبى ، حتى وإن تطلب الأمر القتال من جديد، ولذلك فشبح الحرب ليس بعيدا. لكن النظر إلى الأمور وكأنها تجرى بين جانبين فقط فيه قصر نظر شديد ، فطوال الوقت الذى أنفقت فيه مليارات الدولارات وأزهقت فيه آلاف الأرواح لم تكن أطراف اللعبة إلا مجرد أدوات فى أيدى الكبار.
 تبدو الصفقة الآن مكتملة ، بعد أن قدم الأكراد للأمريكيين موضع قدم آمن فى بداية حرب العراق استطاعوا منه تثبيت وإمداد قوات التحالف بمأمن من المقاومة العراقية. واستمر تأجيل التنفيذ العملى لاستيلاء حكومة كردستان ، التى تتمتع بحكم ذاتى على الإقليم منذ عهد الرئيس الراحل صدام حسين ، إلى أن تم بناء خطوط الأنابيب اللازمة لتصدير النفط عبر الأراضى التركية بعيدا عن سيطرة الحكومة المركزية فى بغداد ، والتى لم يكن بإمكانها فرض سيطرتها المادية على الإقليم الذى بقى تحت الحماية الأمريكية طوال تلك السنوات.
وقد أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لكبرى شركات البترول العالمية للتعاقد مباشرة مع إدارة الإقليم على ضخ وتصدير البترول العراقى الذى يرقد احتياطى هائل منه تحت أراضى كردستان. وبهذا تستحوذ كردستان على نصف ثروة العراق البترولية التى تتوزع بين كركوك فى الشمال والبصرة فى الجنوب. وبينما شهدت العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم توترات طويلة الأمد تمحورت حول الأرض والبترول ووحدة العراق واستقلال كردستان ، خاض خلالها الجانبان معارك مستمرة منذ بداية العصر الجمهورى فى الخمسينات من القرن الماضى ، لم يهدأ النزاع إلا لثلاث سنوات من 1975 – 1978 هى فترة الاتفاقية العراقية الإيرانية تحت حكم حزب البعث العراقى بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين.
وباندلاع الحرب بين العراق وإيران عقب الثورة الإيرانية عام 1979 عاد التوتر مرة أخرى مع ظهور تحالف جديد بين إيران وأكراد العراق. وكان المتوقع أن تسلم كردستان لحكم بغداد عقب هزيمة إيران فى الحرب عام 1988 ، لكن ذلك لم يحدث ، أوبمعنى أصح لم تسنح الفرصة لبغداد لإعادة بسط نفوذها على الإقليم من جديد. فقد تورط النظام العراقى فى حرب جديدة فاشلة بغزو الكويت ، أتت بتحالف غربى عسكرى بقيادة الولايات المتحدة إلى المنطقة فى عهد بوش الأب ، ثم ضرب الحصار الاقتصادى على العراق لعشر سنوات عانى الأكراد خلالها مثلهم مثل باقى العراقيين من آثار الحصار المريرة، لكن الحظر الجوى على شمال وجنوب العراق والذى كان بداية مشروع تقسيم العراق ، حصّن الإقليم الكردى ضد أى سيطرة من جانب بغداد ، ومع التحضير لحرب العراق بمجئ الرئيس الأمريكى بوش الابن سنحت الفرصة للأكراد للتحالف هذه المرة مع القوة الأعظم فى العالم ، فقد عقد الأميركيين صفقة مباشرة مع الأكراد لتثبيت موطئ قدم لهم يمكنهم من التدخل البرى لإحكام السيطرة على الأراضى العراقية. وظل الأكراد فى أمان تام تحت الحماية الأمريكية منذ احتلال العراق حتى اليوم ، لكن هذا لم يكن كل شيء بالنسبة للأكراد ، ولا للأمريكان.
فقد التقت المصالح بشكل مباشر وواضح فى مخطط تقسيم العراق بحيث يحصل الأكراد بترول كركوك بينما يحصل شيعة الجنوب على بترول البصرة ، وهم الذين أصبحوا لاحقا الفئة الحاكمة بعد ذهاب صدام. ومن الواضح أنه لم تكن هناك أية مشاكل بالمرة بين الأميركيين وحكام بغداد الجدد، لا على الأرض ولا على البترول ولا على استمرار الاحتلال الأمريكى لعشر سنوات. وكان من مصلحة الولايات المتحدة بطبيعة الحال التعامل مع كيانات صغيرة ضعيفة بدلا من التعامل مع دولة موحدة قوية أتعبتها فى الماضى وكلفتها الكثير. لكن مشروع التقسيم لم يمض كما خطط له البريطانيون ، حلفاء أمريكا الأصلاء فى العراق ،والذين جرتهم الولايات المتحدة جرا إلى حرب العراق وقبل أى دولة أخرى فى التحالف، نظرا لخبرة البريطانيين القديمة بالعراق على خلفية الاحتلال البريطانى القديم. والسبب فى عدم اكتمال المشروع يعود بالدرجة الأولى إلى سيطرة الشيعة ، الموالين لإيران، على أرض المركز .. بغداد.
وفى المحاولات الأولى لوضع تصور لكيفية حكم العراق بعد الحرب بات واضحا أن نظام المحاصصة الطائفية يراد له أن يلعب الدور الرئيسى فى تقسيم البلاد ، ثم المحافظة فى المستقبل بطريقة تلقائية تقريبا على هذا التقسيم. فقد قدر للشيعة أن يحتفظوا بحكم الجنوب ، مع نفطه ، وللأكراد حكم الشمال ، مع نفطه، وليبقى حكم العرب السنة فى الوسط دون موارد تذكر، اللهم إلا من بعض التمر على ضفاف دجلة. وبهذا يتم الولاء للغرب صانع هذه التقسيمات من قبل الأقليات المنبثقة من التقسيم ، وتتم السيطرة السلبية ، أى عن طريق الضعف ، على مركز البلاد العربى السنى ، الذى كان رمزا لنضال العراق فى العصر الحديث ورمزا للحضارة العربية عبر التاريخ.
ولم يكن المشهد ماديا فقط ، فقد رأى الجميع كيف تحرق السجلات وكيف يستباح تراث المتحف العراقى وتتم إهانته بالسرقة والضياع، والبيع فى مزادات الغرب بعد ساعات قليلة من سرقة الآثار. كانت هذه المشاهد جزءا من الحرب المعنوية ضد العراق وعروبته وتاريخه ، وضد الإنسان الذى أريد له أن "يعود إلى العصر الحجرى" كما قال بوش الابن.
اليوم تكتمل الحلقة ، ليبيع الأكراد البترول مباشرة من حقول كركوك لأول مرة منذ اكتشاف البترول فى العراق. ومع فشل أول محاولة للحكومة المركزية فى بغداد فرض السيطرة على صادرات بترول الشمال ، وهى بكل المقاييس محاولة هزيلة لا ترقى إلى أى جد ، تتضح أبعاد المؤامرة الكاملة. ويتضح أن بغداد اليوم تتلقى رسالة بأن تكتفى ببترول الجنوب من غنيمة ما بعد صدام وحروب السنين، وأن تعترف بأن أية محاولة من هذا النوع لا يمكن كسبها، خاصة إذا تذكرت أن وحدة العراق لم تكن أبدا على قائمة أولوياتها، وأنه لا يمكن لحركة انفصالية طائفية أن تدعى الوطنية أو القومية من أجل السيطرة على غيرها. 
ولا يبعد الأمر كثيرا عن سيناريو انفصال السودان فى البداية والمراحل والنتيجة، بدأ فقد النزاع السودانى عرقيا دينيا، ومر بحرب طويلة استمرت لعقود تلقى خلالها الانفصاليون دعما خارجيا، ثم انتهى الأمر بانفصال الجنوب دولة ذات سيادة، ومعها بترول السودان الذى كان الهدف الأول والأخير. وهناك سيناريوهات أخرى مشابهة يدبر لها فى ليبيا وغيرها، لا يجد مخططوها غضاضة فى إنجازها بأى ثمن، حتى ولو كان إشعال الحروب وإزهاق أرواح الأبرياء